فصل: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر منهاج القاصدين **


كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

أعلم‏:‏ أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو القطب العظم في الدين، وهو المهم الذي بعث الله به النبيين، ولو طوى بساطه، لاضمحلت الديانة، وظهر الفساد، وخربت البلاد‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون‏}‏‏.‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 104‏]‏، وفى هذه الآية بيانٌ أنه فرض على الكفاية لا فرض عين، لأنه قال‏:‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة‏}‏، ولم يقل‏:‏ كونوا كلكم آمرين بالمعروف، فإذا قام به من يكفى سقط عن الباقين، واختص الفلاح بالقائمين المباشرين له‏.‏ وفى القرآن العظيم آيات كثيرة في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر‏.‏ وعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ‏"‏مثل القائم على حدود الله والمداهن فيها مثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها، وأصاب بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا‏:‏ لو خرقنا في نصينا خرقاً فاستقينا منه، ولم نؤذى من فوقنا، فإن تركوها وأمرهم هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً‏"‏‏.‏

1ـ فصل في مراتب الإنكار وبعض ما ورد فيه

فقد جاء في الحديث المشهور من رواية مسلم، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال‏:‏ ‏"‏من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان‏"‏‏.‏

وفى حديث آخر‏:‏ ‏"‏أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر‏"‏‏.‏ وفى حديث آخر‏:‏ ‏"‏إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له‏:‏ أنت ظالم، فقد تُودِّع منهم‏"‏‏.‏ وقام أبو بكر رضى الله عنه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 105‏]‏، وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعذاب‏.‏ وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله شراركم على خياركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم‏"‏‏.‏

2ـ فصل في أركانه وشروطه ودرجاته وآدابه ونحو ذلك

اعلم‏:‏ أن أركان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أربعة‏:‏

أحدها‏:‏ أن يكون المنكر مكلفاً مسلماً قادراً، وهذا شرط لوجوب الإنكار‏.‏فإن الصبي المميز، له إنكار المنكر، ويثاب على ذلك، لكن لا يجب عليه‏.‏

وأما عدالة المنكر، فاعتبرها قوم وقالوا‏:‏ ليس للفساق أن يحتسب ، وإنما استدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 44‏]‏ وليس لهم في ذلك حجة‏.‏

واشترط قوم كون المنكر مأذوناً فيه من جهة الإمام أو الوالي، ولم يجيزوا لآحاد الرعية الحسبة، وهذا فاسد، لأن الآيات والأخبار عامة تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عنه عصى، فالتخصيص بإذن الإمام تحكم‏.‏ ومن العجب أن الروافض زادوا على هذا فقالوا‏:‏ لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يتكلموا، لكن جوابهم أن يقال لهم إذا جاءوا إلى القاضي طالبين حقوقهم‏:‏ نصرتكم أمر بالمعروف، واستخراج حقوقكم من يد من ظلمكم نهى عن المنكر، ولم يجئ زمان ذلك لأن الإمام لم يخرج بعد‏.‏

فإن قيل‏:‏ بى الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم، مع كونه حقاً، فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من السلطان‏.‏

قلنا‏:‏ أما الكافر فممنوع من ذلك لما فيه من السلطة والعز، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة‏.‏

3ـ مراتب الحسبة

واعلم أن الحسبة لها خمس مراتب‏:‏

1ـ التعريف‏:‏

2ـ والوعظ بالكلام اللطيف‏.‏

الثالثة‏:‏ السب والتعنيف، ولسنا نعنى بالسب الفاحشة، بل نقول له‏:‏ يا جاهل يا أحمق، ألا تخاف من الله تعالى‏!‏ ونحو ذلك‏.‏

والرابعة‏:‏ المنع بالقهر، ككسر الملاهي وإراقة الخمر‏.‏

والخامسة‏:‏ التخويف والتهديد بالضرب، أو مباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه، فهذه المرتبة تحتاج إلى الإمام دون ما قبلها، لأنه ربما جر إلى فتنة‏.‏

واستمرار عادات السلف على الحسبة للولد على الوالد، والعبد على السيد، والزوجة على الزوج، والرعية على الوالي‏؟‏‏.‏

قلنا‏:‏ أصل الولاية ثابت للكل، وقد رتبنا للحسبة خمس مراتب‏.‏ فللولد من ذلك الحسبة بالتعريف، ثم بالوعظ والنصح باللطف‏.‏ وله من الرتبة الخامسة‏:‏ أن يكسر العود، ويريق الخمر، ونحو ذلك، وهذا الترتيب ينبغي أن يجرى في العبد والزوجة‏.‏

وأما الرعية مع السلطان، فالأمر فيه أشد من الولد، فليس معه إلا التعريف والنصح‏.‏ ويشترط كون المنكر قادراً على الإنكار، فأما العاجز، فليس عليه إنكار إلا بقلبه، ولا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي، بل يلتحق به خوف مكروه يناله، فذلك في معنى العجز‏.‏ وكذلك إذا علم أن إنكاره لا ينفع، فيقسم إلى أربعة أحوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن يعلم أن المنكر يزول بقوله أو فعله من غير مكروه يلحقه، فيجب عليه الإنكار

الحالة الثانية‏:‏ أن يعلم أن كلامه لا ينفع وأنه إن تكلم ضرب، فيرتفع الوجوب عنه‏.‏

الحالة الثالثة‏:‏ أن يعلم إن إنكاره لا يفيد، لكنه لا يخاف مكروهاً، فلا يجب عليه الأمر لعدم الفائدة، لكن يستحب لإظهار شعائر الإسلام والتذكير بالدين‏.‏

الحالة الرابعة‏:‏ أن يعلم أنه يصاب بمكروه، ولكن يبطل المنكر بفعله، مثل أن يكسر العود، ويريق الخمر، ويعلم أنه يضرب عقيب ذلك، فيرتفع الوجوب عنه، ويبقى مستحباً لقوله في الحديث‏:‏ ‏"‏أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر‏"‏‏.‏ ولا خلاف أنه يجوز للمسلم الواحد أن يهجم على صفوف الكفار ويقاتل، وإن علم أنه يقتل، لكن إن علم أنه لا نكاية له في الكفار، كالأعمى يطرح نفسه على الصف، حرم ذلك، وكذلك لو رأى فاسقاً وحده وعنده قدح خمر وبيده سيف، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب الخمر لضرب عنقه، لم يجز له الإقدام على ذلك، لأن هذا لا يؤثر في الدين أثراً يفديه بنفسه، وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر، وظهر لفعله فائدة، كمن يحمل في صف الكفار ونحوه‏.‏ وإن علم المنكر أنه يضرب معه غيره من أصحابه، لم تجزله الحسبة، لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بإفضائه إلى منكر آخر، ليس ذلك من القدرة في شىء‏.‏ ولسنا نعنى بالعلم في هذه المواضيع إلا غلبة الظن، فمن غلب على ظنه أنه يصيبه مكروه، لم يجب عليه الإنكار، وإن غلب على ظنه أنه لا يصيبه وجب، ولا اعتبار بحالة الجبان، ولا الشجاع المتهور، بل الاعتبار بالمعتدل الطبع، السليم المزاج‏.‏ ونعنى بالمكروه‏:‏ الضرب أو القتل، وكذلك نهب المال، والإشهار في البلد مع تسويد الوجه، فأما السب والشتم، فليس بعذر في السكوت، لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب‏.‏

الركن الثانى‏:‏ أن يكون ما فيه الحسبة منكراً موجوداً في الحال ظاهراً، فمعنى كونه منكراً أن يكون محذور الوقوع في الشرع، والمنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يزنى بمجنونة أو بهيمة، فعليه أن يمنعه‏.‏

وقولنا‏:‏ موجوداً في الحال، احتراز ممن شرب الخمر وفرغ من شربها، ونحو

ذلك ، فإن ذلك ليس إلى الآحاد، وفيه أيضاً احتراز عما سيوجد في ثاني الحال، كمن يعلم بقرينه حاله أنه عازم على الشرب الليلة، فلا حسبة عليه إلا بالوعظ‏.‏

وقولنا‏:‏ ظاهراً، احتراز ممن تستر بالمعصية في داره وأغلق بابه، فإنه لا يجوز أن يتجسس عليه، إلا أن يظهر ما يعرفه من هو خارج الدار، كأصوات المزامير والعيدان، فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي، فإن فاحت رائحة الخمر، فالأظهر جواز الإنكار‏.‏

ويشترط في إنكار المنكر أن يكون معلوماً كونه منكراً بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد، فلا حسبة فيه، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله متروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه يسير النبيذ الذي ليس بمسكر‏.‏

الركن الثالث‏:‏ في المنكر عليه، ويكفى في صفته أن يكون إنساناً، ولا يشترط كونه مكلفاً كما بينا قبله من أنه ينكر على الصبي والمجنون‏.‏

الركن الرابع‏:‏ نفس الاحتساب، وله درجات وآداب‏.‏

الدرجة الأولى‏:‏ أن يعرف المنكر، فلا ينبغي له أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا يتعرض للشم ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما قد ستر بثوب ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر جيرانه بما يجرى، بل لو أخبره عدلان ابتداءً أن فلاناً يشرب الخمر، فله إذ ذاك أن يدخل وينكر‏.‏

الدرجة الثانية‏:‏ التعريف، فإن الجاهل يقدم على الشيء لا يظنه منكراً، فإذا عرف أقلع عنه، فيجب تعريفه باللطف، فيقال له‏:‏ إن الإنسان لا يولد عالماً، ولقد كنا جاهلين بأمور الشرع حتى علمنا العلماء، فلعل قريتك خالية من أهل العلم‏.‏

فكهذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء‏.‏ ومن اجتنب محذور السكوت عن المنكر، واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه، فقد غسل الدم بالبول‏.‏

الدرجة الثالثة‏:‏ النهى بالوعظ والنصح والتخويف بالله، ويورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد، ويحكي له سيرة السلف، ويكون ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب، وها هنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها، وهو أن العالم يرى عند التعريف عز نفسه بالعلم، وذل غيره بالجهل‏.‏

ومثال ذلك مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه، وهو غاية الجهل، ومذلة عظيمة، وغرور من الشيطان، ولذلك محك ومعيار، فينبغي أن يمتحن به المحتسب نفسه، أو باحتساب غيره عليه، أحب إليه من امتناعه ‏‏ باحتسابه، فإن كانت الحسبة شاقة عليه، ثقيلة على نفسه، وهو يود أن يكفى بغيره، فليحتسب، فإن باعثه هو الدين، وإن كان الأمر بالعكس، فهو متبع هوى نفسه، متوسل إلى إظهار جاهه بواسطة انكاره، فليتق الله وليحتسب أولاً على نفسه‏.‏

وقيل لداود الطائى‏:‏ أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر‏؟‏ قال‏:‏ أخاف عليه السوط‏.‏ قيل‏:‏ هو يقوى على ذلك، قال أخاف عليه السيف، قيل‏:‏ هو يقوى على ذلك، قال أخاف عليه الداء الدفين‏:‏ العجب‏.‏

الدرجة الرابعة ‏:‏ السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن، وإنما يعدل إلى هذا عند العجز عن المنع باللطف ، وظهور مبادئ الإصرار، والاستهزاء بالوعظ والنصح، ولسنا نعنى بالسب‏:‏ الفحش والكذب، بل نقول له‏:‏ يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل، ألا تخاف الله، قال الله تعالى حاكية عن إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏ أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏الأنبياء ‏:‏67‏]‏‏.‏

الدرجة الخامسة‏:‏ التغيير باليد، ككسر الملاهى، وإراقة الخمر ، وإخراجه من الدار المغصوبة، وفي الدرجة أدبان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن لا يباشر التغيير ما لم يعجز عن تكليف المنكر علي ذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه الخروج عن الأرض المغصوبة، فلا ينبغي أن يجره ولا يدفعه‏.‏

والثاني‏:‏ أن يكسر الملاهي كسراً يبطل صلاحيتها للفساد، ولا يزيد على ذلك ويتوقى في إراقة الخمور كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً، وإن لم يقدر إلا بأن يرمى ظروفها بحجر أو نحوه، فله ذلك، وتسقط قيمة الظرف، ولو ستر الخمر بيديه، فإنه يقصد بيديه بالضرب ليتوصل إلى إراقة الخمر، ولو كانت الخمر في قوارير ضيقة الرؤوس، بحيث أنه إذا اشتغل بإراقتها طال الزمان وأدركه الفساق فمنعوه ، فله كسرها، لأن هذا عذر وكذلك إن كان يضيع الزمان في صبها، وتتعطل أشغاله، فله كسرها ولو لم يحذر من الفساق‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهلا يجوز الكسر زجراً، وكذلك الجر بالرجل في الإخراج من الدار المغصوبة زجراً ‏؟‏

قلنا‏:‏ إنما يجوز مثل ذلك للولاة ، ولا يجوز لآحاد الرعية، لخفاء وجه الاجتهاد فيه‏.‏

الدرجة السادسة‏:‏ التهديد والتخويف كقوله‏:‏ دع عنك هذا وإلا فعلت بك كذا وكذا، وينبغى أن يقدم هذا على تحقيق الضرب إذا أمكن تقديمه‏.‏ والأدب بى هذه الرتبة أن لا يهدد بوعيد لا يجوز تحقيقه، كقوله‏:‏ لأنهبن دارك، ولأسبين زوجتك، لأنه إن قال ذلك عن عزم، فهو حرام، وإن قاله عن غير عزم ، فهو كذب‏.‏

الدرجة السابعة‏:‏ مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح، وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة، فإذا اندفع المنكر فينبغي أن يكف‏.‏

الدرجة الثامنة‏:‏ أن لا يقدر على الإنكار بنفسه ويحتاج إلى أعوان يشهرون السلاح، فإنه ربما يستمد الفاسق أيضاً بأعوانه ويؤدى إلى القتال، فالصحيح أن ذلك يحتاج إلى إذن الإمام، لأنه يؤدى إلى الفتن وهيجان الفساد‏.‏

وقيل ‏:‏ لا يشترط في ذلك إذن الإمام‏.‏

4ـ فصل ‏[‏في صفات المحتسب‏]‏

وقد ذكرنا آداب المحتسب مفصلة، وجملتها ثلاث صفات في المحتسب‏.‏

العلم بمواقع الحسبة وحدودها ومواقعها، ليقتصر على حد الشرع‏.‏

والثاني ‏:‏ الورع، فانه قد يعلم شيئاً ولا يعمل به لغرض من الأغراض‏.‏

والثالث‏:‏ حسن الخلق، وهو أصل ليتمكن من الكف، فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع خلق حسن‏.‏ قال بعض السلف‏:‏ لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به، حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به ، فقيه فيما ينهى عنه ‏.‏

ومن الآداب‏:‏ تقليل العلائق، وقطع الطمع عن الخلق لتزول المداهنة، فقد حكى عن بعض السلف أنه كان له سنور، وكان يأخذ لسنوره في كل يوم من قصاب في جواره شيئاً من الغدد‏.‏ فرأى على القصاب منكراً ، فدخل الدار فأخرج السنور، ثم جاءه فأنكر على القصاب، فقال‏:‏ لا أعطيك بعد هذا شيئاً لسنورك، فقال‏:‏ ما أنكرت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك، وهذا صحيح، فإن لم يقطع الطمع من الناس من شيئين لم يقدر على الإنكار عليهم‏.‏

أحدهما ‏:‏ من لطف ينالونه به ‏.‏

والثاني ‏:‏ من رضاهم عنه وثنائهم عليه‏.‏

وأما الرفق في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فمتعين ، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فقولا له قولاً ليناً‏}‏ ‏[‏طه ‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وروى أن أبا الدرداء رضى الله عنه مر على رجل قد أصاب ذنبا والناس يسبونه، فقال‏:‏ أرأيتم لو وجدتموه في قليب، ألم تكونوا مستخرجيه‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ فلا تسبوا أخاكم ، واحمدوا الله الذي عافكم، فقالوا‏:‏ أفلا تبغضه‏؟‏ فقال‏:‏ إنما أبغض عمله، فإذا تركه، فهو أخي‏.‏

ومر فتى يجر ثوبه، فهم أصحاب صلة بن أشيم أن يأخذوه بألسنتهم أخذاً شديداً، فقال صلة‏:‏ دعوني أكفكم أمره، ثم قال‏:‏ يا ابن أخي، إن لى إليك حاجة‏.‏ قال ما هي‏؟‏ قال‏:‏ أحب أن ترفع إزارك، قال نعم ونعمى عين ‏‏ فرفع إزاره، فقال صلة، لأصحابه‏:‏ هذا كان أمثل مما أردتم ، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم‏.‏

وُدعي الحسن إلى عرس، فجئ بجام من فضة فيه خبيص ، فتناوله وقلبه على رغيف، فأصاب منه، فقال رجل ‏:‏ هذا نهى في سكون‏.‏